الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا} لما ذكر الله تعالى في هذه السورة الإحسان إلى النساء وإيصال صدقاتهن إليهن، وانجر الأمر إلى ذكر ميراثهن مع مواريث الرجال، ذكر أيضا التغليظ عليهن فيما يأتين به من الفاحشة، لئلا تتوهم المرأة أنه يسوغ لها ترك التعفف. قوله تعالى{واللاتي} }اللاتي} جمع التي، وهو اسم مبهم للمؤنث، وهي معرفة ولا يجوز نزع الألف واللام منه للتنكير، ولا يتم إلا بصلته؛ وفيه ثلاث لغات كما تقدم. ويجمع أيضا }اللات} بحذف الياء وإبقاء الكسرة؛ و}اللائي} بالهمزة وإثبات الياء، و}اللاء} بكسر الهمزة وحذف الياء، و}اللا} بحذف الهمزة. فإن جمعت الجمع قلت في اللاتي: اللواتي، وفي اللاء: اللوائي. وقد روي عنهم }اللوات} بحذف الياء وإبقاء الكسرة؛ قال ابن الشجري. قال الجوهري: أنشد أبو عبيد: واللوا بإسقاط التاء. وتصغير التي اللتيا بالفتح والتشديد؛ قال الراجز: وبعض الشعراء أدخل على }التي} حرف النداء، وحروف النداء لا تدخل على ما فيه الألف واللام إلا في قولنا: يا الله وحده؛ فكأنه شبهها به من حيث كانت الألف واللام غير مفارقتين لها. وقال: ويقال: وقع في اللتيا والتي؛ وهما اسمان من أسماء الداهية. قوله تعالى{يأتين الفاحشة} الفاحشة في هذا الموضع الزنا، والفاحشة الفعلة القبيحة، وهي مصدر كالعاقبة والعافية. وقرأ ابن مسعود }بالفاحشة} بباء الجر. قوله تعالى{من نسائكم} إضافة في معنى الإسلام وبيان حال المؤمنات؛ كما قال قوله تعالى{فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} أي من المسلمين، فجعل الله الشهادة على الزنا خاصة أربعة تغليظا على المدعي وسترا على العباد. وتعديل الشهود بالأربعة في الزنا حكم ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن؛ قال الله تعالى ولا بد أن يكون الشهود ذكورا؛ لقوله{منكم} ولا خلاف فيه بين الأمة. وأن يكونوا عدولا؛ لأن الله تعالى شرط العدالة في البيوع والرجعة، وهذا أعظم، وهو بذلك أولى. وهذا من حمل المطلق على المقيد بالدليل، على ما هو مذكور في أصول الفقه. ولا يكونون ذمة، وإن كان الحكم على ذمية، وسيأتي ذلك في }المائدة} وتعلق أبو حنيفة بقوله{أربعة منكم} في أن الزوج إذا كان أحد الشهود في القذف لم يلاعن. وسيأتي بيانه في }النور} إن شاء الله تعالى. قوله تعالى{فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت} هذه أول عقوبات الزناة؛ وكان هذا في ابتداء الإسلام؛ قال عبادة بن الصامت والحسن ومجاهد حتى نسخ بالأذى الذي بعده، ثم نسخ ذلك بآية }النور} وبالرجم في الثيب. وقالت فرقة: بل كان الإيذاء هو الأول ثم نسخ بالإمساك، ولكن التلاوة أخرت وقدمت؛ ذكره ابن فورك، وهذا الإمساك والحبس في البيوت كان في صدر الإسلام قبل أن يكثر الجناة، فلما كثروا وخشي قوتهم اتخذ لهم سجن؛ قاله ابن العربي. واختلف العلماء هل كان هذا السجن حدا أو وعدا بالحد على قولين: أحدهما: أنه توعد بالحد، والثاني: أنه حد؛ قال ابن عباس والحسن. زاد ابن زيد: وأنهم منعوا من النكاح حتى يموتوا عقوبة لهم حين طلبوا النكاح من غير وجهه. وهذا يدل على أنه كان حدا بل أشد؛ غير أن ذلك الحكم كان ممدودا إلى غاية وهو الأذى في الآية الأخرى، على اختلاف التأويلين في أيهما قبل؛ وكلاهما ممدود إلى غاية وهي {واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما} قوله تعالى{واللذان} }اللذان} تثنية الذي، وكان القياس أن يقال: اللذيان كرحيان ومصطفيان وشجيان. قال سيبويه: حذفت الياء ليفرق بين الأسماء المتمكنة والأسماء المبهمات. وقال أبو علي: حذفت الياء تخفيفا، إذ قد أمن اللبس في اللذان؛ لأن النون لا تنحذف، ونون التثنية في الأسماء المتمكنة قد تنحذف مع الإضافة في رحياك ومصطفيا القوم؛ فلو حذفت الياء لاشتبه المفرد بالاثنين. وقرأ ابن كثير }اللذان} بتشديد النون؛ وهي لغة قريش؛ وعلته أنه جعل التشديد عوضا من ألف }ذا} على ما يأتي بيانه في سورة }القصص} عند قوله تعالى قوله تعالى{فآذوهما} قال قتادة والسدي: معناه التوبيخ والتعيير. وقالت فرقة: هو السب والجفاء دون تعيير. ابن عباس: النيل باللسان والضرب بالنعال. قال النحاس: وزعم قوم أنه منسوخ. قلت: رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد قال{واللاتي يأتين الفاحشة} و}اللذان يأتيانها} كان في أول الأمر فنسختهما الآية التي في }النور}. قال النحاس: وقيل وهو أولى: إنه ليس بمنسوخ، وأنه واجب أن يؤدبا بالتوبيخ فيقال لهما: فجرتما وفسقتما وخالفتما أمر الله عز وجل. واختلف العلماء في تأويل قوله تعالى{واللاتي} وقوله{واللذان} فقال مجاهد وغيره: الآية الأولى في النساء عامة محصنات وغير محصنات، والآية الثانية في الرجال خاصة. وبين لفظ التثنية صنفي الرجال من أحصن ومن لم يحصن؛ فعقوبة النساء الحبس، وعقوبة الرجال الأذى. وهذا قول يقتضيه اللفظ، ويستوفي نص الكلام أصناف الزناة. ويؤيده من جهة اللفظ قوله في الأولى{من نسائكم} وفي الثانية }منكم}؛ واختاره النحاس ورواه عن ابن عباس. وقال السدي وقتادة وغيرهما: الأولى في النساء المحصنات. يريد: ودخل معهن من أحصن من الرجال بالمعنى، والثانية في الرجل والمرأة البكرين. قال ابن عطية: ومعنى هذا القول تام إلا أن لفظ الآية يقلق عنه. وقد رجحه الطبري، وأباه النحاس وقال: تغليب المؤنث على المذكر بعيد؛ لأنه لا يخرج الشيء إلى المجاز ومعناه صحيح في الحقيقة. وقيل: كان الإمساك للمرأة الزانية دون الرجل؛ فخصت المرأة بالذكر في الإمساك ثم جمعا في الإيذاء. قال قتادة: كانت المرأة تحبس ويؤذيان جميعا؛ وهذا لأن الرجل يحتاج إلى السعي والاكتساب. واختلف العلماء أيضا في القول بمقتضى حديث عبادة الذي هو بيان لأحكام الزناة على ما بيناه؛ فقال بمقتضاه علي بن أبي طالب لا اختلاف عنه في ذلك، وأنه جلد شراحة الهمدانية مائة ورجمها بعد ذلك، وقال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بهذا القول الحسن البصري والحسن بن صالح بن حي وإسحاق. وقال جماعة من العلماء: بل على الثيب الرجم بلا جلد. وهذا يروى عن عمر وهو قول الزهري والنخعي ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وأحمد وأبي ثور؛ متمسكين بأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامدية ولم يجلدهما، وبقوله عليه السلام لأنيس: (اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) ولم يذكر الجلد؛ فلو كان مشروعا لما سكت عنه. قيل لهم: إنما سكت عنه؛ لأنه ثابت بكتاب الله تعالى، فليس يمتنع أن يسكت عنه لشهرته والتنصيص عليه في القرآن؛ لأن قوله تعالى واختلفوا في نفي البكر مع الجلد؛ فالذي عليه الجمهور أنه ينفى مع الجلد؛ قاله الخلفاء الراشدون: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وهو قول ابن عمر رضوان الله عليهم أجمعين، وبه قال عطاء وطاوس وسفيان ومالك وابن أبي ليلى والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وقال بتركه حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن. والحجة للجمهور حديث عبادة المذكور، وأما قولهم: الزيادة على النص نسخ، فليس بمسلم، بل زيادة حكم آخر مع الأصل. ثم هو قد زاد الوضوء بالنبيذ بخبر لم يصح على الماء، واشترط الفقر في القربى؛ إلى غير ذلك مما ليس منصوصا عليه في القرآن. وقد مضى هذا المعنى في البقرة ويأتي. القائلون بالتغريب في يختلفوا في تغريب الذكر الحر، واختلفوا في تغريب العبد والأمة؛ فممن رأى التغريب فيهما ابن عمر جلد مملوكة له في الزنا ونفاها إلى فدك وبه قال الشافعي وأبو ثور والثوري والطبري وداود. واختلف قول الشافعي في نفي العبد، فمرة قال: أستخير الله في نفي العبد، ومرة قال: ينفى نصف سنة، ومرة قال: ينفى سنة إلى غير بلده؛ وبه قال الطبري. واختلف أيضا قوله في نفي الأمة على قولين. وقال مالك: ينفى الرجل ولا تنفى المرأة ولا العبد، ومن نفي حبس في الموضع الذي ينفى إليه. وينفى من مصر إلى الحجاز وشغب وأسوان ونحوها، ومن المدينة إلى خيبر وفدك؛ وكذلك فعل عمر بن عبدالعزيز. ونفى علي من الكوفة إلى البصرة. وقال الشافعي: أقل ذلك يوم وليلة. قال ابن العربي: كان أصل النفي أن بني إسماعيل أجمع رأيهم على أن من أحدث حدثا في الحرم غرب منه، فصارت سنة فيهم يدينون بها؛ فلأجل ذلك استن الناس إذا أحدث أحد حدثا غرب عن بلده، وتمادى ذلك في الجاهلية إلى أن جاء الإسلام فأقره في الزنا خاصة. احتج من لم ير النفي على العبد بحديث أبي هريرة في الأمة؛ ولأن تغريبه عقوبة لمالكه تمنعه من منافعه في مدة تغريبه، ولا يناسب ذلك تصرف الشرع، فلا يعاقب غير الجاني. وأيضا فقد سقط عنه الجمعة والحج والجهاد الذي هو حق لله تعالى لأجل السيد؛ فكذلك التغريب. والله أعلم. والمرأة إذا غربت ربما يكون ذلك سببا لوقوعها فيما أخرجت من سببه وهو الفاحشة، وفي التغريب سبب لكشف عورتها وتضييع لحالها؛ ولأن الأصل منعها من الخروج من بيتها وأن صلاتها فيه أفضل. قوله تعالى{فإن تابا} أي من الفاحشة. }وأصلحا} يعني العمل فيما بعد ذلك. }فأعرضوا عنهما} أي اتركوا أذاهما وتعييرهما. وإنما كان هذا قبل نزول الحدود. فلما نزلت الحدود نسخت هذه الآية. وليس المراد بالإعراض الهجرة، ولكنها متاركة معرض؛ وفي ذلك احتقار لهم بسبب المعصية المتقدمة، وبحسب الجهالة في الآية الأخرى. والله تواب أي راجع بعباده عن المعاصي. {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما، وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما} قوله تعالى{إنما التوبة على الله} قيل: هذه الآية عامة لكل من عمل ذنبا. وقيل: لمن جهل فقط، والتوبة لكل من عمل ذنبا في موضع آخر. واتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين؛ لقوله تعالى وقوله قوله تعالى{للذين يعملون السوء بجهالة} السوء في هذه الآية، و}الأنعام}. قوله تعالى{ثم يتوبون من قريب} قال ابن عباس والسدي: معناه قبل المرض والموت. وروي عن الضحاك أنه قال: كل ما كان قبل الموت فهو قريب. وقال أبو مجلز والضحاك أيضا وعكرمة وابن زيد وغيرهم: قبل المعاينة للملائكة والسوق، وأن يغلب المرء على نفسه. ولقد أحسن محمود الوراق حيث قال: بادر بها غلق النفوس فإنها ذخر وغنم للمنيب المحسن قال علماؤنا رحمهم الله: وإنما صحت التوبة منه في هذا الوقت؛ لأن الرجاء باق ويصح منه الندم والعزم على ترك الفعل. وقد وروى صالح المري عن الحسن قال: من عير أخاه بذنب قد تاب إلى الله منه ابتلاه الله به. وقال الحسن أيضا: إن إبليس لما هبط قال: بعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام الروح في جسده. قوله تعالى{وليست التوبة} نفى سبحانه أن يدخل في حكم التائبين من حضره الموت وصار في حين اليأس؛ كما كان فرعون حين صار في غمرة الماء والغرق فلم ينفعه ما أظهر من الإيمان؛ لأن التوبة في ذلك الوقت لا تنفع، لأنها حال زوال التكليف. وبهذا قال ابن عباس وابن زيد وجمهور المفسرين. وأما الكفار يموتون على كفرهم فلا توبة لهم في الآخرة، وإليهم الإشارة بقوله تعالى{أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما} وهو الخلود. وإن كانت الإشارة بقوله إلى الجميع فهو في جهة العصاة عذاب لا خلود معه؛ وهذا على أن السيئات ما دون الكفر؛ أي ليست التوبة لمن عمل دون الكفر من السيئات ثم تاب عند الموت، ولا لمن مات كافرا فتاب يوم القيامة. وقد قيل: إن السيئات هنا الكفر، فيكون المعنى وليست التوبة للكفار الذين يتوبون عند الموت، ولا للذين يموتون وهم كفار. وقال أبو العالية: نزل أول الآية في المؤمنين }إنما التوبة على الله}. والثانية في المنافقين. }وليست التوبة للذين يعملون السيئات} يعني قبول التوبة للذين أصروا على فعلهم. }حتى إذا حضر أحدهم الموت} يعني الشرق والنزع ومعاينة ملك الموت. }قال إني تبت الآن} فليس لهذا توبة. ثم ذكر توبة الكفار فقال تعالى{ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما} أي وجيعا دائما. وقد تقدم. {يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا} قوله تعالى{لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها} هذا متصل بما تقدم ذكره من الزوجات. والمقصود نفي الظلم عنهن وإضرارهن؛ والخطاب للأولياء. و}أن} في موضع رفع بـ }يحل}؛ أي لا يحل لكم وراثة النساء. و}كرها} مصدر في موضع الحال. واختلفت الروايات وأقوال المفسرين في سبب نزولها؛ فروى البخاري عن ابن عباس }يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاؤوا زوجوها، وإن شاؤوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية في ذلك. وأخرجه أبو داود بمعناه. وقال الزهري وأبو مجلز: كان من عادتهم إذا مات الرجل يلقي ابنه من غيرها أو أقرب عصبته ثوبه على المرأة فيصير أحق بها من نفسها ومن أوليائها؛ فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذي أصدقها الميت، وان شاء زوجها من غيره وأخذ صداقها ولم يعطها شيئا؛ وإن شاء عضلها لتفتدى منه بما ورثته من الميت أو تموت فيرثها، فأنزل الله تعالى{يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها}. فيكون المعنى: لا يحل لكم أن ترثوهن من أزواجهن فتكونوا أزواجا لهن. وقيل: كان الوارث إن سبق فألقى عليها ثوبا فهو أحق بها، وإن سبقته فذهبت إلى أهلها كانت أحق بنفسها؛ قال السدي. وقيل: كان يكون عند الرجل عجوز ونفسه تتوق إلى الشابة فيكره فراق العجوز لمالها فيمسكها ولا يقربها حتى تفتدي منه بمالها أو تموت فيرث مالها. فنزلت هذه الآية. وأمر الزوج أن يطلقها إن كره صحبتها ولا يمسكها كرها؛ فذلك قوله تعالى{لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها}. والمقصود من الآية إذهاب ما كانوا عليه في جاهليتهم، وألا تجعل النساء كالمال يورثن عن الرجال كما يورث المال. }وكرها} بضم الكاف قراءة حمزة والكسائي، الباقون بالفتح، وهما لغتان. وقال القتبي: الكره (بالفتح) بمعنى الإكراه، والكره (بالضم) المشقة. يقال: لتفعل ذلك طوعا أو كرها، يعني طائعا أو مكرها. والخطاب للأولياء. وقيل: لأزواج النساء إذا حبسوهن مع سوء العشرة طماعية إرثها، أو يفتدين ببعض مهورهن، وهذا أصح. واختاره ابن عطية قال: ودليل ذلك قوله تعالى{إلا أن يأتين بفاحشة) وإذا أتت بفاحشة فليس للولي حبسها حتى يذهب بمالها إجماعا من الأمة، وإنما ذلك للزوج، على ما يأتي بيانه في المسألة بعد هذا. قوله تعالى{ولا تعضلوهن} قد تقدم معنى العضل وأنه المنع في }البقرة}. }إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} اختلف الناس في معنى الفاحشة؛ فقال الحسن: هو الزنا، وإذا زنت البكر فإنها تجلد مائة وتنفى سنة، وترد إلى زوجها ما أخذت منه. وقال أبو قلابة؛ إذا زنت امرأة الرجل فلا بأس أن يضارها ويشق عليها حتى تفتدي منه. وقال السدي: إذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن. وقال ابن سيرين وأبو قلابة: لا يحل له أن يأخذ منها فدية إلا أن يجد على بطنها رجلا، قال الله تعالى{إلا أن يأتين بفاحشة مبينة}. وقال ابن مسعود وابن عباس والضحاك وقتادة: الفاحشة المبينة في هذه الآية البغض والنشوز، قالوا: فإذا نشزت حل له أن يأخذ مالها؛ وهذا هو مذهب مالك. قال ابن عطية: إلا أني لا أحفظ له نصا في الفاحشة في الآية. وقال قوم: الفاحشة البذاء باللسان وسوء العشرة قولا وفعلا؛ وهذا في معنى النشوز. ومن أهل العلم من يجيز أخذ المال من الناشز على جهة الخلع؛ إلا أنه يرى ألا يتجاوز ما أعطاها ركونا إلى قوله تعالى{لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن}. وقال مالك وجماعة من أهل العلم: للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملك. قال ابن عطية: والزنا أصعب على الزوج من النشوز والأذى، وكل ذلك فاحشة تحل أخذ المال. قال أبو عمر: قول ابن سيرين وأبي قلابة عندي ليس بشيء؛ لأن الفاحشة قد تكون البذاء والأذى؛ ومنه قيل للبذيء: فاحش ومتفحش، وعلى أنه لو أطلع منها على الفاحشة كان له لعانها، وإن شاء طلقها؛ وأما أن يضارها حتى تفتدي منه بمالها فليس له ذلك، ولا أعلم أحدا قال: له أن يضارها ويسيء إليها حتى تختلع منه إذا وجدها تزني غير أبي قلابة. والله أعلم. وقال الله عز وجل وإذا تنزلنا على القول بأن المراد بالخطاب في العضل الأولياء ففقهه أنه متى صح في ولي أنه عاضل نظر القاضي في أمر المرأة وزوجها. إلا الأب في بناته؛ فإنه إن كان في عضله صلاح فلا يعترض، قولا واحدا، وذلك بالخاطب والخاطبين وإن صح عضله ففيه قولان في مذهب مالك: أنه كسائر الأولياء، يزوج القاضي من شاء التزويج من بناته وطلبه. والقول الآخر - لا يعرض له: يجوز أن يكون }تعضلوهن} جزما على النهى، فتكون الواو عاطفة جملة كلام مقطوعة من الأولى، ويجوز أن يكون نصبا عطفا على }أن ترثوا} فتكون الواو مشتركة عطفت فعلا على فعل. وقرأ ابن مسعود }ولا أن تعضلوهن} فهذه القراءة تقوي احتمال النصب، وأن العضل مما لا يجوز بالنص. قوله تعالى{مبينة} بكسر الياء قراءة نافع وأبي عمرو، والباقون بفتح الياء. وقرأ ابن عباس }مبينة} بكسر الباء وسكون الياء، من أبان الشيء، يقال: أبان الأمر بنفسه، وأبنته وبين وبينته، وهذه القراءات كلها لغات فصيحة. قوله تعالى{وعاشروهن بالمعروف} أي على ما أمر الله به من حسن المعاشرة. والخطاب للجميع، إذ لكل أحد عشرة، زوجا كان أو وليا؛ ولكن المراد بهذا الأمر في الأغلب الأزواج، وهو مثل قوله تعالى جعل الحبيب. جمعا كالخليط والغريق. وعاشره معاشرة، وتعاشر القوم واعتشروا. فأمر الله سبحانه بحسن صحبة النساء إذا عقدوا عليهن لتكون أدمة ما بينهم وصحبتهم على الكمال، فإنه أهدأ للنفس وأهنأ للعيش. وهذا واجب على الزوج ولا يلزمه في القضاء. وقال بعضهم: هو أن يتصنع لها كما تتصنع له. وقال يحيى بن عبدالرحمن الحنظلي: أتيت محمد بن الحنفية فخرج إلي في ملحفة حمراء ولحيته تقطر من الغالية، فقلت: ما هذا؟ قال: إن هذه الملحفة ألقتها علي امرأتي ودهنتني بالطيب، وإنهن يشتهين منا ما نشتهيه منهن. وقال ابن عباس رضي الله عنه: إني أحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين المرأة لي. وهذا داخل فيما ذكرناه. قال ابن عطية: وإلى معنى الآية ينظر واستدل علماؤنا بقوله تعالى{وعاشروهن بالمعروف} على أن المرأة إذا كانت لا يكفيها خادم واحد أن عليه أن يخدمها قدر كفايتها، كابنة الخليفة والملك وشبههما ممن لا يكفيها خادم واحد، وأن ذلك هو المعاشرة بالمعروف. وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يلزمه إلا خادم واحد - وذلك يكفيها خدمة نفسها، وليس في العالم امرأة إلا وخادم واحد يكفيها؛ وهذا كالمقاتل تكون له أفراس عدة فلا يسهم له إلا لفرس واحد؛ لأنه لا يمكنه القتال إلا على فرس واحد. قال علماؤنا: وهذا غلط؛ لأن مثل بنات الملوك اللاتي لهن خدمة كثيرة لا يكفيها خادم واحد؛ لأنها تحتاج من غسل ثيابها لإصلاح مضجعها وغير ذلك إلى ما لا يقوم به الواحد، وهذا بين. والله أعلم. قوله تعالى{فإن كرهتموهن} أي لدمامة أو سوء خلق من غير ارتكاب فاحشة أو نشوز؛ فهذا يندب فيه إلى الاحتمال، فعسى أن يؤول الأمر إلى أن يرزق الله منها أولادا صالحين. و}أن} رفع بـ }عسى} وأن والفعل مصدر. قلت: ومن هذا المعنى ما ورد في {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا، وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا} لما مضى في الآية المتقدمة حكم الفراق الذي سببه المرأة، وأن للزوج أخذ المال منها عقب ذلك بذكر الفراق الذي سببه الزوج، وبين أنه إذا أراد الطلاق من غير نشوز وسوء عشرة فليس له أن يطلب منها مالا. واختلف العلماء إذا كان الزوجان يريدان الفراق وكان منهما نشوز وسوء عشرة؛ فقال مالك رضي الله عنه: للزوج أن يأخذ منها إذا تسببت في الفراق ولا يراعى تسببه هو. وقال جماعة من العلماء: لا يجوز له أخذ المال إلا أن تنفرد هي بالنشوز وتطلبه في ذلك. قوله تعالى{وآتيتم إحداهن قنطارا} فيها دليل على جواز المغالاة في المهور؛ لأن الله تعالى لا يمثل إلا بمباح. قال أبو عبيد: أراد أنه يسمع الكلمة تغيظه وليست بشتم فيؤاخذ صاحبها بها، وقد أبلغت إليه كعرق القربة، فقال: كعرق السقا لما لم يمكنه الشعر؛ ثم قال: على القعود اللاغب، وكان معناه أن تعلق القربة على القعود في أسفارهم. وهذا المعنى شبيه بما كان الفراء يحكيه؛ زعم أنهم كانوا في المفاوز في أسفارهم يتزودون الماء فيعلقونه على الإبل يتناوبونه؛ فكان في ذلك تعب ومشقة على الظهر. وكان الفراء يجعل هذا التفسير في علق القربة باللام. وقال قوم: لا تعطى الآية جواز المغالاة بالمهور؛ لأن التمثيل بالقنطار إنما هو على جهة المبالغة؛ كأنه قال: وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد. وهذا كقوله: وقول الآخر: قوله تعالى{فلا تأخذوا منه شيئا} قال بكر بن عبدالله المزني: لا يأخذ الزوج من المختلعة شيئا؛ لقول الله تعالى{فلا تأخذوا}، وجعلها ناسخة لآية }البقرة}. وقال ابن زيد وغيره: هي منسوخة بقوله تعالى في سورة البقرة قوله تعالى{وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض} تعليل لمنع الأخذ مع الخلوة. وقال بعضهم: الإفضاء إذا كان معها في لحاف واحد جامع أو لم يجامع؛ حكاه الهروي وهو قول الكلبي. وقال الفراء: الإفضاء أن يخلو الرجل والمرأة وأن يجامعها. وقال ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم: الإفضاء في هذه الآية الجماع. قال ابن عباس: ولكن الله كريم يكنى. وأصل الإفضاء في اللغة المخالطة؛ ويقال للشيء المختلط: فضا. قال الشاعر: ويقال: القوم فوضى فضا، أي مختلطون لا أمير عليهم. وعلى أن معنى }أفضى} خلا وإن لم يكن جامع، هل يتقرر المهر بوجود الخلوة أم لا؟ اختلف علماؤنا في ذلك على أربعة أقوال: يستقر بمجرد الخلوة. لا يستقر إلا بالوطء. يستقر بالخلوة في بيت الإهداء. التفرقة بين بيته وبيتها. والصحيح استقراره بالخلوة مطلقا، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، قالوا: إذا خلا بها خلوة صحيحة يجب كمال المهر والعدة دخل بها أو لم يدخل بها؛ قوله تعالى{وأخذن منكم ميثاقا غليظا} فيه ثلاثة أقوال. قيل: هو {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا} قوله تعالى{ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} يقال: كان الناس يتزوجون امرأة الأب برضاها بعد نزول قوله تعالى قوله تعالى{ما نكح} قيل: المراد بها النساء. وقيل: العقد، أي نكاح آباؤكم الفاسد المخالف لدين الله؛ إذ الله قد أحكم وجه النكاح وفصل شروطه. وهو اختيار الطبري. فـ }من} متعلقة بـ }تنكحوا} و}ما نكح} مصدر. قال: ولو كان معناه ولا تنكحوا النساء اللاتي نكح آباؤكم لوجب أن يكون موضع }ما} }من}. فالنهي على هذا إنما وقع على ألا ينكحوا مثل نكاح آبائهم الفاسد. والأول أصح، وتكون }ما} بمعنى }الذي} و}من}. والدليل عليه أن الصحابة تلقت الآية على ذلك المعنى؛ ومنه استدلت على منع نكاح الأبناء حلائل الآباء. وقد كان في العرب قبائل قد اعتادت أن يخلف ابن الرجل على امرأة أبيه، وكانت هذه السيرة في الأنصار لازمة، وكانت في قريش مباحة مع التراضي. ألا ترى أن عمرو بن أمية خلف على امرأة أبيه بعد موته فولدت له مسافرا وأبا معيط، وكان لها من أمية أبو العيص وغيره؛ فكان بنو أمية إخوة مسافر وأبي معيط وأعمامهما. ومن ذلك صفوان بن أمية بن خلف تزوج بعد أبيه امرأته فاخته بنت الأسود بن المطلب بن أسد، وكان أمية قتل عنها. ومن ذلك منظور بن زبان خلف على مليكة بنت خارجة، وكانت تحت أبيه زبان بن سيار. ومن ذلك حصن بن أبي قيس تزوج امرأة أبيه كبيشة بنت معن. والأسود بن خلف تزوج امرأة أبيه. وقال الأشعث بن سوار: توفي أبو قيس وكان من صالحي الأنصار فخطب ابنه قيس امرأة أبيه فقالت: إني أعدك ولدا، ولكني آتي وسول الله صلى الله عليه وسلم استأمره؛ فأتته فأخبرته فأنزل الله هذه الآية. وقد كان في العرب من تزوج ابنته، وهو حاجب بن زرارة تمجس وفعل هذه الفعلة؛ ذكر ذلك النضر بن شميل في كتاب المثالب. فنهى الله المؤمنين عما كان عليه آباؤهم من هذه السيرة. قوله تعالى{إلا ما قد سلف} أي تقدم ومضى. والسلف؛ من تقدم من آبائك وذوي قرابتك. وهذا استثناء منقطع، أي لكن ما قد سلف فاجتنبوه ودعوه. وقيل{إلا} بمعنى بعد، أي بعد ما سلف؛ كما قال تعالى قوله تعالى{إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا} عقب بالذم البالغ المتتابع، وذلك دليل على أنه فعل انتهى من القبح إلى الغاية. قال أبو العباس: سألت ابن الأعرابي عن نكاح المقت فقال: هو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا طلقها أو مات عنها؛ ويقال لهذا الرجل: الضيزن. وقال ابن عرفة: كانت العرب إذا تزوج الرجل امرأة أبيه فأولدها قيل للولد: المقتي. وأصل المقت البغض؛ من مقته يمقته مقتا فهو ممقوت ومقيت. فكانت العرب تقول للرجل من امرأة أبيه: مقيت؛ فسمى تعالى هذا النكاح }مقتا} إذ هو ذا مقت يلحق فاعله. وقيل: المراد بالآية النهي عن أن يطأ الرجل امرأة وطئها الآباء، إلا ما قد سلف من الآباء في الجاهلية من الزنى بالنساء لا على وجه المناكحة فإنه جائز لكم زواجهن. وأن تطؤوا بعقد النكاح ما وطئه آباؤكم من الزنى؛ قال ابن زيد. وعليه فيكون الاستثناء متصلا، ويكون أصلا في أن الزنى لا يحرم على ما يأتي بيانه. والله أعلم. {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما} قوله تعالى{حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم} أي نكاح أمهاتكم ونكاح بناتكم؛ فذكر الله تعالى في هذه الآية ما يحل من النساء وما يحرم، كما ذكر تحريم حليلة الأب. فحرم الله سبعا من النسب وستا من رضاع وصهر، وألحقت السنة المتواترة سابعة؛ وذلك الجمع بين المرأة وعمتها، ونص عليه الإجماع. وثبتت الرواية عن ابن عباس قال: حرم من النسب سبع ومن الصهر سبع، وتلا هذه الآية. وقال عمرو بن سالم مولى الأنصار مثل ذلك، وقال: السابعة قوله تعالى{والمحصنات}. فالسبع المحرمات من النسب: الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات، وبنات الأخ وبنات الأخت. والسبع المحرمات بالصهر والرضاع: الأمهات من الرضاعة والأخوات من الرضاعة، وأمهات النساء والربائب وحلائل الأبناء والجمع بين الأختين، والسابعة }ولا تنكحوا ما نكح آبائكم}. قال الطحاوي: وكل هذا من المحكم المتفق عليه، وغير جائز نكاح واحدة منهن بإجماع إلا أمهات النساء اللواتي لم يدخل بهن أزواجهن؛ فإن جمهور السلف ذهبوا إلى أن الأم تحرم بالعقد على الابنة، ولا تحرم الابنة إلا بالدخول بالأم؛ وبهذا قول جمعي أئمة الفتوى بالأمصار. وقالت طائفة من السلف: الأم والربيبة سواء، لا تحرم منهما واحدة إلا بالدخول بالأخرى. قالوا: ومعنى قوله{وأمهات نسائكم} أي اللاتي دخلتم بهن. }وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن}. وزعموا أن شرط الدخول راجع إلى الأمهات والربائب جميعا؛ رواه خلاس عن علي بن أبي طالب. وروي عن ابن عباس وجابر وزيد بن ثابت، وهو قول ابن الزبير ومجاهد. قال مجاهد: الدخول مراد في النازلتين؛ وقول الجمهور مخالف لهذا وعليه الحكم والفتيا، وقد شدد أهل العراق فيه حتى قالوا: لو وطئها بزنى أو قبلها أو لمسها بشهوة حرمت عليه ابنتها. وعندنا وعند الشافعي إنما تحرم بالنكاح الصحيح؛ والحرام لا يحرم الحلال على ما يأتي. وحديث خلاس عن علي لا تقوم به حجة، ولا تصح روايته عند أهل العلم بالحديث، والصحيح عنه مثل قول الجماعة. قال ابن جريج: قلت لعطاء الرجل ينكح المرأة ثم لا يراها ولا يجامعها حتى يطلقها أو تحل له أمها؟ قال: لا، هي مرسلة دخل بها أو لم يدخل. فقلت له: أكان ابن عباس يقرأ{وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن} ؟ قال: لا لا. وروى سعيد عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى{وأمهات نسائكم} قال: هي مبهمة لا تحل بالعقد على الابنة؛ وكذلك روى مالك في موطئه عن زيد بن ثابت، وفيه{فقال زيد لا، الأم مبهمة ليس فيها شرط وإنما الشرط في الربائب}. قال ابن المنذر: وهذا هو الصحيح؛ لدخول جميع أمهات النساء في قوله تعالى{وأمهات نسائكم}. ويؤيد هذا القول من جهة الإعراب أن الخبرين إذا اختلفا في العامل لم يكن نعتهما واحدا؛ فلا يجوز عند النحويين مررت بنسائك وهربت من نساء زيد الظريفات، على أن تكون }الظريفات} نعتا لنسائك ونساء زيد؛ فكذلك الآية لا يجوز أن يكون }اللاتي} من نعتهما جميعا؛ لأن الخبرين مختلفان، ولكنه يجوز على معنى أعني. وأنشد الخليل وسيبويه: خويربين يعني لصين، بمعنى أعني. وينقفان: يكسران؛ نقفت رأسه كسرته. وقد جاء صريحا من وإذا تقرر هذا وثبت فاعلم أن التحريم ليس صفة للأعيان، والأعيان ليست موردا للتحليل والتحريم ولا مصدرا، وإنما يتعلق التكليف بالأمر والنهي بأفعال المكلفين من حركة وسكون؛ لكن الأعيان لما كانت موردا للأفعال أضيف الأمر والنهي والحكم إليها وعلق بها مجازا على معنى الكناية بالمحل عن الفعل الذي يحل به. قوله تعالى{أمهاتكم} تحريم الأمهات عام في كل حال لا يتخصص بوجه من الوجوه؛ ولهذا يسميه أهل العلم المبهم، أي لا باب فيه ولا طريق إليه لانسداد التحريم وقوته؛ وكذلك تحريم البنات والأخوات ومن ذكر من المحرمات. والأمهات جمع أمهة؛ يقال: أم وأمهة بمعنى واحد، وجاء القرآن بهما. وقد تقدم في الفاتحة بيانه. وقيل: إن أصل أم أمهة على وزن فعلة مثل قبرة وحمرة لطيرين، فسقطت وعادت في الجمع. قال الشاعر: وقيل: أصل الأم أمة، وأنشدوا: ويكون جمعها أمات. قال الراعي: فالأم اسم لكل أنثى لها عليك ولادة؛ فيدخل في ذلك الأم دنية، وأمهاتها وجداتها وأم الأب وجداته وإن علون. والبنت اسم لكل أنثى لك عليها ولادة، وإن شئت قلت: كل أنثى يرجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أو درجات؛ فيدخل في ذلك بنت الصلب وبناتها وبنات الأبناء وإن نزلن. والأخت اسم لكل أنثى جاورتك في أصليك أو في أحدهما والبنات جمع بنت، والأصل بنية، والمستعمل ابنة وبنت. قال الفراء: كسرت الباء من بنت لتدل الكسرة على الياء، وضمت الألف من أخت لتدل على حذف الواو، فإن أصل أخت أخوة، والجمع أخوات. والعمة اسم لكل أنثى شاركت أباك أو جدك في أصليه أو في أحدهما. وإن شئت قلت: كل ذكر رجع نسبه إليك فأخته عمتك. وقد تكون العمة من جهة الأم، وهي أخت أب أمك. والخالة اسم لكل أنثى شاركت أمك في أصليها أو في أحدهما. وإن شئت قلت: كل أنثى رجع نسبها إليك بالولادة فأختها خالتك. وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك. وبنت الأخ اسم لكل أنثى لأخيك عليها ولادة بواسطة أو مباشرة؛ وكذلك بنت الأخت. فهذه السبع المحرمات من النسب. وقرأ نافع - في رواية أبي بكر بن أبي أويس - بتشديد الخاء من الأخ إذا كانت فيه الألف واللام مع نقل الحركة. قوله تعالى{وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} وهي في التحريم مثل من ذكرنا؛ {أرضعنكم} فإذا أرضعت المرأة طفلا حرمت عليه لأنها أمه، وبنتها لأنها أخته، وأختها لأنها خالته، وأمها لأنها جدته، وبنت زوجها صاحب اللبن لأنها أخته، وأخته لأنها عمته، وأمه لأنها جدته، وبنات بنيها وبناتها لأنهن بنات إخوته وأخواته. قال أبو نعيم عبيدالله بن هشام الحلبي: سئل مالك عن المرأة أيحج معها أخوها من الرضاعة؟ قال: نعم. قال أبو نعيم: وسئل مالك عن امرأة تزوجت فدخل بها زوجها. ثم جاءت امرأة فزعمت أنها أرضعتهما؛ قال: يفرق بينهما، وما أخذت من شيء له فهو لها، وما بقي عليه فلا شيء عليه. ثم التحريم بالرضاع إنما يحصل إذا اتفق الإرضاع في الحولين؛ كما تقدم في }البقرة}. ولا فرق بين قليل الرضاع وكثيره عندنا إذا وصل إلى الأمعاء ولو مصة واحدة. واعتبر الشافعي في الإرضاع شرطين: أحدهما خمس رضعات؛ قلت: قوله تعالى{وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} استدل به من نفى لبن الفحل، وهو سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وأبو سلمة بن عبدالرحمن، وقالوا: لبن الفحل لا يحرم شيئا من قبل الرجل. وقال الجمهور: قوله تعالى{وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} يدل على أن الفحل أب؛ لأن اللبن منسوب إليه فإنه در بسبب ولده. وهذا ضعيف؛ فإن الولد خلق من ماء الرجل والمرأة جميعا، واللبن من المرأة ولم يخرج من الرجل، وما كان من الرجل إلا وطء هو سبب لنزول الماء منه، وإذا فصل الولد خلق الله اللبن من غير أن يكون مضافا إلى الرجل بوجه ما؛ ولذلك لم يكن للرجل حق في اللبن، وإنما اللبن لها، فلا يمكن أخذ ذلك من القياس على الماء. قوله تعالى{وأخواتكم من الرضاعة} وهي الأخت لأب وأم، وهي التي أرضعتها أمك بلبان أبيك؛ سواء أرضعتها معك أو ولدت قبلك أو بعدك. والأخت من الأب دون الأم، وهي التي أرضعتها زوجة أبيك. والأخت من الأم دون الأب، وهي التي أرضعتها أمك بلبان رجل آخر. ثم ذكر التحريم بالمصاهرة فقال تعالى{وأمهات نسائكم} والصهر أربع: أم المرأة وابنتها وزوجة الأب وزوجة الابن. فأم المرأة تحرم بمجرد العقد الصحيح على ابنتها على ما تقدم قوله تعالى{وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن} هذا مستقل بنفسه. ولا يرجع قوله{من نسائكم اللاتي دخلتم بهن} إلى الفريق الأول، بل هو راجع إلى الربائب، إذ هو أقرب مذكور كما تقدم. والربيبة: بنت امرأة الرجل من غيره؛ سميت بذلك لأنه يربيها في حجره فهي مربوبة، فعيلة بمعنى مفعولة. واتفق الفقهاء على أن الربيبة تحرم على زوج أمها إذا دخل بالأم، وإن لم تكن الربيبة في حجره. وشذ بعض المتقدمين وأهل الظاهر فقالوا: لا تحرم عليه الربيبة إلا أن تكون في حجر المتزوج بأمها؛ فلو كانت في بلد آخر وفارق الأم بعد الدخول فله أن يتزوج بها؛ واحتجوا بالآية فقالوا: حرم الله تعالى الربيبة بشرطين: أحدهما: أن تكون في حجر المتزوج بأمها. والثاني: الدخول بالأم؛ فإذا عدم أحد الشرطين لم يوجد التحريم. قوله تعالى{فإن لم تكونوا دخلتم بهن} يعني بالأمهات. }فلا جناح عليكم} يعني في نكاح بناتهن إذا طلقتموهن أو متن عنكم. وأجمع العلماء على أن الرجل إذا تزوج المرأة ثم طلقها أو ماتت قبل أن يدخل بها حل له نكاح ابنتها. واختلفوا في معنى الدخول بالأمهات الذي يقع به تحريم الربائب؛ فروي عن ابن عباس أنه قال: الدخول الجماع؛ وهو قول طاوس وعمرو بن دينار وغيرهما. واتفق مالك والثوري وأبو حنيفة والأوزاعي والليث على أنه إذا مسها بشهوه حرمت عليه أمها وابنتها وحرمت على الأب والابن، وهو أحد قولي الشافعي. واختلفوا في النظر؛ فقال مالك: إذا نظر إلى شعرها أو صدرها أو شيء من محاسنها للذة حرمت عليه أمها وابنتها. وقال الكوفيون: إذا نظر إلى فرجها للشهوة كان بمنزلة اللمس للشهوة. وقال الثوري: يحرم إذا نظر إلى فرجها متعمدا أو لمسها؛ ولم يذكر الشهوة. وقال ابن أبي ليلى: لا تحرم بالنظر حتى يلمس؛ وهو قول الشافعي. والدليل على أن بالنظر يقع التحريم أن فيه نوع استمتاع فجرى مجرى النكاح؛ إذ الأحكام تتعلق بالمعاني لا بالألفاظ. وقد يحتمل أن يقال: إنه نوع من الاجتماع بالاستمتاع؛ فإن النظر اجتماع ولقاء، وفيه بين المحبين استمتاع؛ وقد بالغ في ذلك الشعراء فقالوا: نعم، وترى الهلال كما أراه ويعلوها النهار كما علاني فكيف بالنظر والمجالسة والمحادثة واللذة. قوله تعالى{وحلائل أبنائكم} الحلائل جمع حليلة، وهي الزوجة. سميت حليلة لأنها تحل مع الزوج حيث حل؛. فهي فعيلة بمعنى فاعلة. وذهب الزجاج وقوم إلى أنها من لفظة الحلال؛ فهي حليلة بمعنى محللة. وقيل: لأن كل واحد منهما يحل إزار صاحبه. أجمع العلماء على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء، وما عقد عليه الأبناء على الآباء، كان مع العقد وطء أو لم يكن؛ لقوله تعالى{ولا تنكحوا ما نكح آبائكم من النساء} وقوله تعالى{وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم }؛ فإن نكح أحدهما نكاحا فاسدا حرم على الآخر العقد عليها كما يحرم بالصحيح؛ لأن النكاح الفاسد لا يخلو: إما أن يكون متفقا على فساده أو مختلفا فيه. فإن كان متفقا على فساده لم يوجب حكما وكان وجوده كعدمه. وإن كان مختلفا فيه فيتعلق به من الحرمة ما يتعلق بالصحيح؛ لاحتمال أن يكون نكاحا فيدخل تحت مطلق اللفظ. والفروج إذا تعارض فيها التحريم والتحليل غلب التحريم. والله أعلم. قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من علماء الأمصار على أن الرجل إذا وطئ امرأة بنكاح فاسد أنها تحرم على أبيه وابنه وعلى أجداده وولد ولده. وأجمع العلماء على أن عقد الشراء على الجارية لا يحرمها على أبيه وابنه؛ فإذا اشترى الرجل جارية فلمس أو قبل حرمت على أبيه وابنه، لا أعلمهم يختلفون فيه؛ فوجب تحريم ذلك تسليما لهم. ولما اختلفوا في تحريمها بالنظر دون اللمس لم يجز ذلك لاختلافهم. قال ابن المنذر: ولا يصح عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلناه. وقال يعقوب ومحمد: إذا نظر رجل في فرج امرأة من شهوة حرمت على أبيه وابنه، وتحرم عليه أمها وابنتها. وقال مالك: إذا وطئ الأمة أو قعد منها مقعدا لذلك وإن لم يفض إليها، أو قبلها أو باشرها أو غمزها تلذذا فلا تحل لابنه. وقال الشافعي: إنما تحرم باللمس ولا تحرم بالنظر دون اللمس؛ وهو قول الأوزاعي واختلفوا في الوطء بالزنى هل يحرم أم لا؛ فقال أكثر أهل العلم: لو أصاب رجل امرأة بزنى لم يحرم عليه نكاحها بذلك؛ وكذلك لا تحرم عليه امرأته إذا زنى بأمها أو بابنتها، وحسبه أن يقام عليه الحد، ثم يدخل بامرأته. ومن زنى بامرأة ثم أراد نكاح أمها أو ابنتها لم تحرما عليه بذلك. وقالت طائفة: تحرم عليه. روي هذا القول عن عمران بن حصين؛ وبه قال الشعبي وعطاء والحسن وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، وروي عن مالك؛ وأن الزنى يحرم الأم والابنة وأنه بمنزلة الحلال، وهو قول أهل العراق. والصحيح من قول مالك وأهل الحجاز: أن الزنى لا حكم له؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال{وأمهات نسائكم} وليست التي زنى بها من أمهات نسائه، ولا ابنتها من ربائبه. وهو قول الشافعي وأبي ثور. لأنه لما ارتفع الصداق في الزنى ووجوب العدة والميراث ولحقوق الولد ووجوب الحد ارتفع أن يحكم له بحكم النكاح الجائز. فإن قيل: فيلزم على هذا أن تجري أحكام البنوة والأبوة من التوارث والولايات وغير ذلك، وقد اتفق المسلمون على أنه لا توارث بينهما فلم تصح تلك النسبة؟ فالجواب: إن ذلك موجب ما ذكرناه. وما انعقد عليه الإجماع من الأحكام استثنيناه، وبقي الباقي على أصل ذلك الدليل، والله أعلم. واختلف العلماء أيضا من هذا الباب في مسألة اللائط؛ فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم: لا يحرم النكاح باللواط. وقال الثوري: إذا لعب بالصبي حرمت عليه أمه؛ وهو قول أحمد بن حنبل. قال: إذا تلوط بابن امرأته أو أبيها أو أخيها حرمت عله امرأته. وقال الأوزاعي: إذا لاط بغلام وولد للمفجور به بنت لم يجز للفاجر أن يتزوجها؛ لأنها بنت من قد دخل به. وهو قول أحمد بن حنبل. قوله تعالى{الذين من أصلابكم} تخصيص ليخرج عنه كل من كانت العرب تتبناه ممن ليس للصلب. ولما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم امرأة زيد بن حارثة قال المشركون: تزوج امرأة ابنه ! وكان عليه السلام تبناه؛ على ما يأتي بيانه في }الأحزاب}. وحرمت حليلة الابن من الرضاع وإن لم يكن للصلب - بالإجماع المستند إلى قوله عليه السلام: (يحرم الرضاع ما يحرم من النسب). قوله تعالى{وأن تجمعوا بين الأختين} موضع }أن} رفع على العطف على }حرمت عليكم أمهاتكم}. والأختان لفظ يعم الجميع بنكاح وبملك يمين. وأجمعت الأمة على منع جمعهما في عقد واحد من النكاح لهذه الآية، شذ أهل الظاهر فقالوا: يجوز الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء؛ كما يجوز الجمع بينهما في الملك. واحتجوا بما روي عن عثمان في الأختين من ملك اليمين{حرمتهما آية وأحلتهما آية}. ذكره عبدالرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب أن عثمان بن عفان سئل عن الأختين مما ملكت اليمين فقال: لا آمرك ولا أنهاك أحلتهما آية وحرمتهما آية. فخرج السائل فلقي رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال معمر: أحسبه قال علي - قال: وما سألت عنه عثمان؟ فأخبره بما سأل وبما أفتاه؛ فقال له: لكني أنهاك، ولو كان لي عليك سبيل ثم فعلت لجعلتك نكالا. وذكر الطحاوي والدارقطني عن علي وابن عباس مثل قول عثمان. والآية التي أحلتهما قوله تعالى{وأحل لكم ما وراء ذلكم}. ولم يلتفت أحد من أئمة الفتوى إلى هذا القول؛ لأنهم فهموا من تأويل كتاب الله خلافه، ولا يجوز عليهم تحريف التأويل. وممن قال ذلك من الصحابة: عمر وعلي وابن مسعود وعثمان وابن عباس وعمار وابن عمر وعائشة وابن الزبير؛ وهؤلاء أهل العلم بكتاب الله، فمن خالفهم فهو متعسف في التأويل. وذكر ابن المنذر أن إسحاق بن راهويه حرم الجمع بينهما بالوطء، وأن جمهور أهل العلم كرهوا ذلك، وجعل مالكا فيمن كرهه. ولا خلاف في جواز جمعهما في الملك، وكذلك الأم وابنتها. قال ابن عطية: ويجيء من قول إسحاق أن يرجم الجامع بينهما بالوطء، وتستقرأ الكراهية من قول مالك: إنه إذا وطئ واحدة ثم وطئ الأخرى وقف عنهما حتى يحرم إحداهما؛ فلم يلزمه حدا. قال أبو عمر: (أما قول علي لجعلته نكالا) ولم يقل لحددته حد الزاني؛ فلأن من تأول آية أو سنة ولم يطأ عند نفسه حراما فليس بزان بإجماع وإن كان مخطئا، إلا أن يدعي من ذلك ما لا يعذر بجهله. وقول بعض السلف في الجمع بين الأختين بملك اليمين: (أحلتهما آية وحرمتهما آية) معلوم محفوظ؛ فكيف يحد حد الزاني من فعل ما فيه مثل هذا من الشبهة القوية؟ وبالله التوفيق. واختلف العلماء إذا كان يطأ واحدة ثم أراد أن يطأ الأخرى؛ فقال علي وابن عمر والحسن البصري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق: لا يجوز له وطء الثانية حتى يحرم فرج الأخرى بإخراجها من ملكه ببيع أو عتق، أو بأن يزوجها. قال ابن المنذر: وفيه قول ثان لقتادة، وهو أنه إذا كان يطأ واحدة وأراد وطء الأخرى فإنه ينوي تحريم الأولى على نفسه وألا يقربها، ثم يمسك عنهما حتى يستبرئ الأولى المحرمة، ثم يغشى الثانية. وفيه قول ثالث: وهو إذا كان عنده أختان فلا يقرب واحدة منهما. هكذا قال الحكم وحماد؛ وروي معنى ذلك عن النخعي. ومذهب مالك: إذا كان أختان عند رجل بملك فله أن يطأ أيتهما شاء، والكف عن الأخرى موكول إلى أمانته. فإن أراد وطء الأخرى فيلزمه أن يحرم على نفسه فرج الأولى بفعل يفعله من إخراج عن الملك: إما بتزويج أو بيع أو عتق إلى أجل أو كتابة أو إخدام طويل. فإن كان يطأ إحداهما ثم وثب على الأخرى دون أن يحرم الأولى وقف عنهما، ولم يجز له قرب إحداهما حتى يحرم الأخرى؛ ولم يوكل ذلك إلى أمانته؛ لأنه متهم فيمن قد وطئ؛ ولم يكن قبل متهما إذ كان لم يطأ إلا الواحدة. ومذهب الكوفيين في هذا الباب: الثوري وأبي حنيفة وأصحابه أنه إن وطئ إحدى أمتيه لم يطأ الأخرى؛ فإن باع الأولى أو زوجها ثم رجعت إليه أمسك عن الأخرى؛ وله أن يطأها ما دامت أختها في العدة من طلاق أو وفاة. فأما بعد انقضاء العدة فلا، حتى يملك فرج التي يطأ غيره؛ وروي معنى ذلك عن علي رضي الله عنه. قالوا: لأن الملك الذي منع وطء الجارية في الابتداء موجود، فلا فرق بين عودتها إليه وببن بقائها في ملكه. وقول مالك حسن؛ لأنه تحريم صحيح في الحال ولا يلزم مراعاة المال؛ وحسبه إذا حرم فرجها عليه ببيع أو بتزويج أنها حرمت عليه في الحال. ولم يختلفوا في العتق؛ لأنه لا يتصرف فيه بحال؛ وأما الكاتبة فقد تعجز فترجع إلى ملكه. فإن كان عند رجل أمة يطؤها ثم تزوج أختها ففيها في المذهب ثلاثة أقوال في النكاح. الثالث: في المدونة أنه يوقف عنهما إذا وقع عقد النكاح حتى يحرم إحداهما مع كراهية لهذا النكاح؛ إذ هو عقد في موضع لا يجوز فيه الوطء. وفي هذا ما يدل على أن ملك اليمين لا يمنع النكاح؛ كما تقدم عن الشافعي. وفي الباب بعينه قول آخر: أن النكاح لا ينعقد؛ وهو معنى قول الأوزاعي. وقال أشهب في كتاب الاستبراء: عقد النكاح في الواحدة تحريم لفرج المملوكة. وأجمع العلماء على أن الرجل إذا طلق زوجته طلاقا يملك رجعتها أنه ليس له أن ينكح أختها أو أربعا سواها حتى تنقضي عدة المطلقة. واختلفوا إذا طلقها طلاقا لا يملك رجعتها؛ فقالت طائفة: ليس له أن ينكح أختها ولا رابعة حتى تنقضي عدة التي طلق؛ وروي عن علي وزيد بن ثابت، وهو مذهب مجاهد وعطاء بن أبي رباح والنخعي، وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وأصحاب الرأي. وقالت طائفة: له أن ينكح أختها وأربعا سواها؛ وروي عن عطاء، وهي أثبت الروايتين عنه، وروي عن زيد بن ثابت أيضا؛ وبه قال سعيد بن المسيب والحسن والقاسم وعروة بن الزبير وابن أبي ليلى والشافعي وأبو ثور وأبو عبيد. قال ابن المنذر: ولا أحسبه إلا قول مالك وبه نقول. قوله تعالى{إلا ما قد سلف} يحتمل أن يكون معناه معنى قوله{إلا ما قد سلف} في قوله{ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف}. ويحتمل معنى زائدا وهو جواز ما سلف، وأنه إذا جرى الجمع في الجاهلية كان النكاح صحيحا، وإذا جرى في الإسلام خير بين الأختين؛ على ما قاله مالك والشافعي، من غير إجراء عقود الكفار على موجب الإسلام ومقتضى الشرع؛ وسواء عقد عليهما عقدا واحدا جمع به بينهما أو جمع بينهما في عقدين. وأبو حنيفة يبطل نكاحهما إن جمع في عقد واحد. وروى هشام بن عبدالله عن محمد بن الحسن أنه قال: كان أهل الجاهلية يعرفون هذه المحرمات كلها التي ذكرت في هذه الآية إلا اثنتين؛ إحداهما نكاح امرأة الأب، والثانية، الجمع بين الأختين؛ ألا ترى أنه قال{ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف}. }وان تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف} ولم يذكر في سائر المحرمات }إلا ما قد سلف}. والله أعلم.
|